قدم الفنان التشكيلي اللبناني الدكتور محمد حسين معرضه الإفرادي الثالث عشر، في صالات جمعية العزم والسعادة-بيت الفن في الميناء بطرابلس، من ضمن احتفالية طرابلس عاصمة للثقافة العربية برعاية وزير الثقافة الدكتور محمد وسام مرتضى.
اللوحات الأربعين أحجام متوسطة وكبيرة، طغى التجريد على حيّز واسع منها، متمحوراً حول حكايا المدينة، كأنه استكمال لمعرض سابق حمل عنوان "حكاية مدينة"، أقيم للفنان حسين في إحدى الصالات البيروتية، مع إضافات أكثر حداثة.
هذا الجانب من المعرض الحالي الذي شاءه الفنان حسين متّصلاً بسلفه، يعالج الإشكالية عينها التي تؤرّق الفنان، الممثلة ب"الفوضى المعمارية، وغياب التنظيم المدني، وفقدان المساحات الخضراء، وتكاثر المباني الآيلة للسقوط وغير ذلك"، بحسب توضيح من الفنان ل"ردبيس".
في جولة على المعرض، تتتالى اللوحات، وتغيب عنها العناوين، والتواريخ، تاركة للمشاهد تقدير مضامين الأعمال.
في الحيّز التجريدي منها أشكال مدينية مسبوكة بتقنية ومهارة متشابهة إلى حد بعيد في مضامينها، لكنها متغيّرة، غير متكرِّرة بين لوحة وأخرى، أنيقة في تناولها، توحي بشيء من الخراب الناجم عن الحروب، لكن الفنان ينحو بها باتجاه انتقاد الفوضى المدينية التي طغت على ما عداها في المجال العمراني، بغياب مؤسسات تضبط اتجاهات البناء.
رغم الفوضى العمرانية الطاغية خارج اللوحة، لكن اللوحات المتعلقة بالعمران، تجلّت بمهارات فنية متنوّعة، استخدم الفنان فيها التلاوين الفاتحة، وأحياناً مارس التناقض اللوني ليعطي للمضمون تفسيراً أكثر تجلياً، ووضوحاً.
كما استخدم أشكالاً تعبيرية متعارضة، تصطف في بعض منها أبنية منتصبة، وفوقها صف من الأبنية المقلوبة، ويلعب الشكلان المتعارضان أفقياً لعبة تناغم، وحوار ضمني.
لوحة أخرى يعتمد الفنان فيها على الشكل العمراني الرمزي، تقابله أشكال أبنية واضحة، وفي هذا التناقض حركة ودينامية لافتة، وقدرة تعبيرية متعدّدة الوجوه والأشكال.
تجريدية ملطّفة تحمل في طياتها رسالة، لذلك شاءها الفنان مفهومة إلى مدىً بعيد، فالتجريد فيها نسبي، غير مطلق، ويمكن- بحسب الفنان- فهمه بسهولة من قبل المشاهد، ويقول في ذلك: “إنّه تجريدي مقروء ليس من الصعب فهمه، أما عن العناوين وغيابها فسببه الوقت الضيق".
وليس من المستغرب اعتماد التجريد من قبل حسين، فغالبية الأعمال الفنية الحديثة تعتمد التجريد بمراتبه المختلفة، ويبلغ الفنانون به التجريد المطلق عندما يريدون ممارسة فنهم للمتعة المجردة.
اعتماد التجريد بتجلياته المختلفة، وتنوّعاته، يعيده حسين إلى "زمن الآلة التي برأيي طغت على كل المفاهيم الحياتية، ومنها الفنون التشكيلية فباتت اللوحة الكلاسيكية مجرد تقنية، وليس لها مفهوم فني جديد”.
ويعقّب على اعتماه التجريد بقوله: "لا أسير به إلى المطلق حيث لا أؤمن بالتجريد غير المقروء لأننا قد نصادف في حياتنا، وفي مجتمعنا القليل من الثقافة الفنية، ورأي عام غير متعمّق في التقنيات والأساليب والمفاهيم الفنية الغربية، وفي هذه الحالة قد يفي التجريد المبسّط بالمطلوب، ويسهم بإغناء الثقافة الفنية للزائر غير المتمكّن من هذه الأنواع من الفنون".
في اللوحات العمرانية، تظهر أشكال وخيالات للمدن المدمرة، ووراءها مدن حديثة، وشامخة، تتّشح بمساحات لونية زاهية، يرى الفنان فيها إنها "تدعو الى الأمل"،لافتاً إلى أن "هناك أيضاً بيوت وقرى قديمة قد ننشد العودة اليها بعد عصر الدمار الشامل”.
في أعماله، ليس من عنصر بلا هدف، أو غاية، فبعض اللوحات تضمنت تقنية الكولاج، تأكيداّ من حسين على سعة خبرة واطّلاع، لكن "هذا الكولاج هدفه الأخبار التي يتداولها الناس في أيامنا هذه، حيث لم أضع غير بقايا بعض جرائد ومجلات"، بحسب حسين متعمقاً في التوضيح في ظروف الاضطراب الحياتي، والتوترات الكبرى التي تضرب الإقليم: "يعني أنّ الخبر بالدرجة الأولى، كونها حكايا المدينة، أي اننا دخلنا فيها إلى الناس، وأخبارهم، وقضاياهم".
حيّز لافت آخر في المعرض يعتمد تقنية "الغراتاج"، تؤكد خبرة وتجربة طويلة شحذها الزمن، حيث تتكامل اللوحة بأشكالها ومعانيها، بضربات سكين أو ريشة أو إبرة غاية في الدقة، تحافظ على المعنى، والشكل بأبهى صوره وتفصيلاته.
في هذا الحيّز، ينتقل الفنان من الشأن العام إلى الشأن الخاص، لكنه مبهم بغياب التسميات، والتواريخ، وفيه يتجلى أنّ الفنان يعبّر عن أحاسيس متداخلة أحياناً، يتلمّس فيها جماليات الشكل، والرؤى بعيدة المدى.
عن فقدان التسميات والتواريخ، يقول: "لم أعتد على تأريخ العمل الفني مباشرة. قد يكون هذا تقصيراً بنظر المشاهد. ربما أفعل في وقت لاحق".
ويختم، شاكياً إنه بعد تجارب عديدة في لبنان، وخاصة في طرابلس والشمال، يظهر عدم الاهتمام بالفنون الثقافية لا من قبل الدولة، ولا عند الغالبية القصوى من الناس، ما يثني الفنان أو الأديب أو الشاعر... عن إعلان أعماله التي تتطلب جهوداً معنوية ومادية، بينما لا يجني من ثمارها شيء سوى التعبير عما يجول في داخله من أحاسيس ومشاعر ومواقف.
محاضرة
على هامش المعرض، قدم حسين محاضرة بعنوان "واقع الفن التشكيلي في لبنان"، تطرق فيها إلى عدة مواضيع منها السيمبوزيوم، والمفهوم الحديث للفن ( الحداثة وما بعد الحداثة)، ومنها تسويق اللوحة ، إضافة إلى الفوضى في المعارض، واحتكار أصحاب الغاليريهات للبيع، والتسويق ومنها أيضاً العلاقات العامة المؤثرة في تسويق العمل الفني.
الفنان
محمد حسين حسين 1960،رئيس قسم الفنون التشكيلية في كلية الفنون الجميلة والعمارة، الفرع الثالث، وعضو في جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت، وفي جمعية الفنانين التشكليين – فرنسا -maison des artistes - وتجمعات فنية أخرى.
أقام ثلاثة عشر معرضاً بين لبنان وفرنسا، وشارك في العديد من المعارض الجامعة في لبنان، والعديد من دول العالم منها الكويت، وساحل العاج، والمملكة العربية السعودية، وسوريا، والمغرب، وفرنسا...
177 مشاهدة
28 فبراير, 2025
216 مشاهدة
12 فبراير, 2025
264 مشاهدة
17 يناير, 2025