لرشهر رمضان المبارك شكل، وطعم، وتجليات خاصة في مدينة طرابلس، ويسعى الطرابلسيون لتجديد تعبيراتهم احتفاءً بالشهر، بنهاراته، ولياليه.
تبدأ الليالي الرمضانية بطيئة بداية الشهر، ويبدأ النشاط الليلي بالتزايد، ويبلغ الذروة في الأيام العشرة الاخيرة، وبذلك تكون طرابلس قد تحولت إلى مدينة رمضانية ليلاً، ومدينة حيويّة، تلغي مظاهر الركود، والجمود اللذين باتا يسودانها إثر العديد من الاضطرابات الأمنية التي انتهت منذ نحو عشر سنوات، وجاءت حركة الشارع ٢٠١٩، وضرورات الكورونا، والأزمة الاقتصادية الناجمة عن الاثنتين، لتقضي على ما خلّفته الأحداث الأمنية.
أحياء، وشوارع، وساحات نعمت بالازدهار والحيوية، من ساحتها الأشهر "التل"، إلى الأحياء القديمة التراثية، إلى الشوارع الحديثة، كانت تعجّ حيوية ونشاطاً، وباتت شبه مقفرة، لكنها تستعيد حيويتها العامرة بالسّهرات الرمضانية.
زينة
أبرز مميزات ليالي رمضان هذا العام الزينة المميّزة، غير المسبوقة، نوعاً وحجماً، التي ازدانت بها ساحة التلّ المعروفة بساحة عبد الناصر حيث أقيم أوّل مبنىً خارج نطاق المدينة القديمة، وهو السراي العثمانية، لتنطلق منها المدينة الحديثة أواخر القرن التاسع عشر.
شاءت بلدية طرابلس، وبعض جمعياتها الأهلية تحضير الساحة لاستعادة دورها السابق، ووضعت خطة لما بعد شهر رمضان، لإعادة إحيائهأ، وإحياء الشوارع المؤدية إليها، بما يعيد للمدينة حضوراً تجارياً، وسياحياً مميّزاً، فجهّزت الساحة بأشكال هندسية من وحي رمضان، كالفوانيس المجسّمة بأحجام مختلفة، والهلال، تزدان بنقوش الأرابيسك، مع إضاءة داخلية، حوّلها الجمهور إلى منصّات تلاقٍ، والتقاط الصور التذكارية المميّزة غير المتوافرة في أماكن أخرى، كما جرت إضاءة برج ساعة التل ليكتمل المشهد، ويحاكي مشهد الساحة ليلة الجلاء أواسط نيسان\إبريل 1946.
الأثر النبوي
من المميزات الطرابلسية الرمضانية زيارة غرفة الأثر النبوي الشريف في الجامع المنصوري الكبير، أعتق مساجد المدينة.
الأثر هدية قدّمها السلطان العثماني عبد الحميد الثاني لطرابلس سنة ١٣٠٩ هجرية\ ١٨٩١م. وهي شعرة من لحية الرسول محمد من المحفوظات في دائرة الأمانات في قصر توكابي باسطنبول.
يتاح المجال لزيارة الأثر آخر يوم جمعة من رمضان، بعد صلاتي الفجر والعصر، وهي محفوظة في علبة من الذهب الخالص، وخصّصت غرفة بها داخل المسجد.
تجمعات
حيثما عبر الانسان في المدينة بعد الفطور، تطالعه تجمعات شبابية في كل زاوية، وحي، يتساهرون على قهوة، وسيجارة، أو نرجيلة، كما تمتليء المقاهي بالروّاد، خصوصاً منها المقاهي التراثية، أبرزها مقهى فهيم، ومارييت باشا، وقهوة التل العليا، وانتشاراً منها نحو الأسواق الداخلية، حيث تنتشر مقاهي حي موسى في باب الرمل، وتعجّ بالروّاد، يتسامرون على فنجان زهورات، أو قهوة، وممارسة بعض ألعاب التسلية كالورق، والدامة، والمنقولة وسواها.
المشهد عينه يتكرّر في الأحياء الأكثر حداثة كعزمي، ومار مارون، والمطران، وطريق الميناء، وعشرات المقاهي والمطاعم في منطقة الضمّ والفرز، تغصّ بالروّاد، إن على مآدب الإفطار، أم بعده.
المسحّر والنوبة
يلازم المسحراتي شهر رمضان من أول أيامه، حتى آخرها، ويتوزع المسحراتيون الشوارع، تساعدهم هندسة المدينةالمتوازية الأحياء، فيبدأ كل مسحر جولته الليلية من أول الشارع حتى نهايته، يقرع الطبل، ويردّد الأهازيج الدينية منوحي الشهر.
يوقظ المسحر النيام قبل موعد الإمساك فجراً، لتناول آخر وجبة في اليوم قبل بدء الصوم نهاراً.
كثيرون يطلبون منه ترداد أهازيج أو أناشيد معينة، يتأملون منها الخير لغائب، أو الصحة لمريض، أو النجاح لطالب شهادة، وغالباً ما يرافق المسحر زميل له يحمل المشعل لينير الطريق، وقد درجت هذه العادة قبل انتشار الكهرباء أوائل ستينات القرن الماضي، ومؤخراً بعد الخلل الكبير في التغذية بالتيار الكهربائي.
صوت المسحّر، وقرع طبلته، ونور المشعل يضفي أنساً على الليالي الحالكة، خصوصاً في الشتاء البارد حيث تخلو الشوارع من الناس.
قبيل نهاية رمضان، تنضم للمسحر فرق الوداع التي تجول على المنازل يؤدي أعضاؤها قرع الطبول والصنوج والدفوف، ويتلون أناشيد دينية، خصوصاً منها في ليلة القدر، وينالون هدايا من حلويات، ومال، وما يتيسر لدى المواطنين.
حلويات
يخصّص الطرابلسيون حلويات لرمضان، ومنها ما لا يتوافر بعد ذلك، خصوصاً "الكربوج" والكلّاج" و"ورد الشام”، وتشتهر طرابلس بحلوياتها المتنوعة، وتعدد المحلات المخصصة للحلويات، ويعود بعض المشاغل إلى أكثر من سبعين سنة خلت، وغن اشتهرت في العقود الأخيرة بعض الماركات، إلّا أن هناك العديد من المحلات التي تقدم أصناف الحلوى، ويتخصّص بعضها بصنف معين، هذا لحلاوة الجبنة، وذاك للكربوج، وذلك للبوظة، وهكذا.
ويتفنّن الصنّاع بتصنيع أشكال مختلفة جاذبة من الصنف عينه، ما يرفع القدرة التنافسية لهذه المهارة.
مشروبات ومأكولات
وتنتشر المشروبات في رمضان، وفي مقدمها الخرنوب الذي بات صناعة متطورة تعتمد التعقيم والفلترة التقنية، والسوس الذي يجد فيه الناس مكافحة للأمراض عملاً بالحديث الشريف "عجبت لقوم يمرضون وفي ديارهم السوس”.
كما يجد العديد من الباعة مناسبة للادخار باعتماد بسطات العصائر الطازجة خصوصاً الليمون بأنواعه، والتفاح، والجزر، وسوى ذلك.
والمآدب من ركائز فترة الصوم، ولها أصولها، وتبدأ بتناول حبة تمر، ثم سائل ساخن خفيف، قبل الولوج ببقية عناصر المأدبة، لكن أكلة ورق العنب باللحم والأرز تبقى الضيف الأبرز لصباح العيد.
فعاليات مختلفة
تنتشر في شهر رمضان مآدب الخير، تقيمها جمعيات أهلية لمساعدة المحتجين، كما تفتح صناديق الزكاة أبوابها، ومن الظواهر إقامة حواجز الضيافة التي تترافق مع الدقائق الأخيرة قبل الإفطار، فتوزع فرق كشفية، ومتطوعون، قناني المياه، وحبات التمر للمتأخرين عن الوصول إلى منازلهم.
بعد الإفطار، يرغب الصائمون بالتوجه إلى مساجد المدينة التراثية، والحديثة، للالتحاق بصلاة التراويح استكمالاً لنهار التقوى، قبل المضي لقضاء بقية الليل في السهرات مع الأحبة والأصدقاء، والأهل، في جو نادر من الألفة، والتضامن الاجتماعي.
كثيرة هي الأنشطة التي تعيشها المدينة في شهر رمضان، ولا يمكن حصرها، لكن المؤكّد أن طرابلس تصبح مدينة موحّدة رمضانية بصورة تامة.
327 مشاهدة
04 مارس, 2024