يستمر الجدل في هوية الفنون من مسرح وسينما وموسيقى منذ أن دخلت الثقافة الحديثة إلى العالم العربي توازياً مع حملة نابليون على مصر، ودخول الفرنسيين والانكليز إلى المشرق العربي أواخر القرن التاسع عشر، وما بعد الحرب العالمية الأولى في القرن العشرين.
خلفيات الجدل هو تداخل الثقافات والتجارب الفنيّة، وتفاعلها بين المحليّ والأوروبي الوافد، واشتداد تأثير الحداثة الغربيةعلى الثقافة العربية بصورة عامة، وخصوصاً على مصر ولبنان كون هذين البلدين هما أكثر البلدان استضافة للثقافة الغربية،إن بالعلاقة المباشرة، أم عبر الإرساليات الأجنبية التي عمّمت الثقافة الغربية، وعمّقت حضورها في الحياة العامة.
على صعيد الموسيقى، حاول استاذ الموسيقى في الجامعة اللبنانية الدكتور جان بالشيون وضع أسس لمفهومالموسيقى اللبنانية، وتشعباتها، وبينما ينفي خبراء في السينما والمسرح وجود هوية لبنانية لهذين المجالَين الفنييّن والثقافييّن، يصرّ بالشيون على ان للموسيقى اللبنانية هوية في طور التشكل رغم التنوع النوعيّ في مجالاتها، ويؤكّدل"ردبيس" أن الموسيقى اللبنانيّة مثلها مثل مختلف هويات الموسيقى في العالم، متنوعة المشارب، والأطر،والأشكال، حيث يلعب التفاعل بين المحلي والأجنبي دوراً بارزاً في التنوّع.
يؤثر بالشيون تلمّس التأثير الغربي -الاوروبي تحديداً- في الموسيقى اللبنانية، لكن الموسيقى اللبنانيّة ظلّت محافظة علىطابعها التراثي، من جهة، ودامجة للمؤثرات الغربية في كثير من الأحيان، دون أن يغيب أن الطابع المحلي ظل موجوداً بقوةفي المجال الموسيقي اللبناني.
ويرى بالشيون أن "تاريخ الموسيقى اللبنانية فتيّ، وعمره من عمر تأسيس الدولة، حيث كان لشكل الوجود الاجتماعيالجديد أثرٌ طيّب على مجمل الحياة السياسية والاقتصادية، كذلك الثقافية في لبنان”. وانه وبالرغم من خصوصية الفن فيكونه انعكاسا صورياً للواقع، استطاعت الموسيقى اللبنانية أن تستفيد من هذا المناخ الذي أعطاه النظام الاقتصاديّ الحرّ،والانفتاح السياسيّ، والثقافي على الغرب".
يحاول بالشيون تقفي أثر التطورات الأوروبية، وتفاعلاتها على خلفية التطور الصناعي، وتعارضه مع التقاليد الإقطاعي ليصلإلى تحديد مفاهيم موسيقية أوروبية، تُقارَن لاحقاً بالموسيقى التقليدية العربية، وتبحث في نتاج تفاعلاتهما.
ينظر بالشيون إلى الثقافة الأوروبية من منظور التطورات الاجتماعية، والتكنولوجية-الصناعيّة التي شهدتها أوروبا، وصراعالبرجوازية الحديثة مع الاقطاع التقليدي، ويعتقد أن "الثقافة الأوروبية كانت ما تزال حديثة كنتاج لمجتمع العلاقات البرجوازيةالتي تراكمت لحوالي ثلاثمائة عام من التطور الصناعي، في مقابل ثقافة تقليدية استمرت لمئات السنين، سادتها عدةأنماط إنتاج عبودي ثم إقطاعي”.
ثم يمضي في تحليل المثال الاوروبي، خالصاً إلى عدة نقاط أهمها أن "أهم إنجاز للحداثة الاوروبية هو التفكير الفرداني،كنقيض للتفكير الجمعي، والانتاج الفني الاوروبي هو نتاج هذه الفردانية، وإن السّمة الاساسيّة للثقافة الاوروبية الحديثةتطورت في الصراع بين القديم والجديد”.
ويقارن بين الثقافتين العربية والاوروبية، فالعربية، كبقية حضارات الشرق، لم تشهد التفارق بين طبقتين اجتماعيتين هماالاقطاعية والبورجوازية التي شهدتها أوروبا فقط، وطبعت كل التحوّلات الفكرية فيها.
ويميز بين الثقافتين الأوروبية والعربية ابتداء من حملة نابليون على مصر، "حيث بلغت الموسيقى الأوروبية منذ عصر النهضة،حوالي 300 عام من التطور المُطّرد، وهي موسيقى فردانية، تونالية، بلغت ذروة تطور قالب السمفونية، وكذلك الأوبرا”.
أما الموسيقى العربية، فكانت، برأيه، "تقليدية، شفهيّة غير مكتوبة، مقاميّة، محليّة الطابع، لا ترتقي إلى طرح معالجةالأفكار الانسانية الراديكالية، الكبيرة، من خلال تصادم الصور الفنية”.
ويستنتج أن الفارق بين الثقافتين العربية والأوروبية كبير، ف"الثقافة الأوروبية الحديثة نشأت من خلال الصراع النوعي معالثقافة التقليدية الإقطاعية، الذي أدى إلى محو كل ما هو غير ملائم مع الثقافة الجديدة، لكنّ الثقافة العربية تطورت ليسبالصراع الجوهري مع الثقافة التقليدية، بل بالتعايش معها”.
ثم يتساءل عن النتيجة العملية لهذه الصيرورة، طارحاً ثلاثة أسئلة كبرى واجهت وتواجه التفكير الموسيقي العربي: العلاقةمع الموسيقى الأوروبية، العلاقة مع التراث، والوظيفة الاجتماعية للمنتَج الموسيقي.
ثم يقارن بين تفاعل لبنان مع الثقافة الأوروبية، وتفاعل الدول العربية الأخرى معها، خصوصاً الدول التي خاضت حروباً ذاتطابع تحرري من الاستعمار، خالصاً إلى أن "لبنان لم يعرف الصراع الحاد مع الاستعمار، وكان أكثر تفاعلاً وانفتاحاً علىالثقافة الغربية، ومن هنا نرى ان جميع الموسيقيين اللبنانيين في مرحلة الانتداب، وما بعد الاستقلال، تلقوا تعليماً موسيقياًغربياً، بالإضافة إلى ثقافتهم التقليدية، وإن بمستويات مختلفة”، كما قال.
في ضوء ذلك، يقسم بالشيون الموسيقيين اللبنانيين إلى ثلاث فئات: الأولى، من كان تأثرهم بالموسيقى الأوروبية كبيراًلدرجة أنهم حاولوا فهم الموسيقى العربية، ومشاكلها من منظور الثقافة الأوروبية، على سبيل المثال منهم توفيق سكر،والثانية، كانت أكثر اتصالاً بالواقع المحلي بالرغم من أنهم درسوا قليلاً الموسيقى الأوروبية، لكنهم أخذوا منها القدر الذييخدم قضيتهم الموسيقية، أمثال الرحابنة، الثالثة، أكثرية الموسيقيين الذين تابعوا على الطريقة التقليدية.
وتناول بالشيون اثر نشوء المسرح وتحديدا الاوبرا على التفكير الأوروبي السيمفوني، أو ما يعرف بالقوالب الكبيرة، ويتساءلعن تجربة الرحابنة، ومن أين أتوا بالأفكار الكبيرة، لافتاً إلى بداياتهم كانت مرتبطة بالفولكلور اللبناني، لكن النزعة التحرريّةالتي رافقت أعمالهم لاحقا كانت تعبيراً عن عصرهم الذي مثّل أفول النظام الاستعماري بعد الحرب العالمية الثانية، عصرحركات التحرر الوطنية، ويركّز على "تأثرهم بالأفكار الجماليّة للاشتراكيين الديمقراطيين الروس، خصوصا موسورغسكي فيأوبراته ذات البعد الدرامي الشعبي”.
ويتوقف بالشيون عند الحدث الأكبر قضية فلسطين الذي أنجب أضخم الأعمال الفنية غير المسبوقة في الموسيقى العربية،وفي مقدمة هذه الاعمال "راجعون" 1955 الذي يعتبر من القوالب الكبيرة.
يتناول بالشيون أيضاً العلاقة مع التراث، وفي العلاقات المجتمعية وتعايش الثقافة الحديثة مع الثقافة التقليدية، ويختم بأنتاريخ الموسيقى اللبنانية فتيّ، لكنه عميق في طرحه للمسائل الموسيقولوجية التي تتخطى حدود الوطن.
بالشيون يحمل الدكتوراه في فلسفة العلوم الموسيقية من كونسرفاتوار ب. أ. تشايكوفسكي في "كييف" بأوكرانيا، بعدنيله شهادة الماستر منه في العزف على الغيتار الكلاسيكي.
درّس الموسيقى في المعهد الوطني العالي للموسيقى في بيروت، وشغل رئاسة قسم الفنون في كلية التربية فيالجامعة اللبنانية لعدة سنوات، وكان استاذاً محاضراً في العديد من المواد أهمها مادة تاريخ الموسيقى في أوروبا والاستتكاالموسيقية.
له خبرات عمليّة موسيقيّة عديدة أبرزها كمنتج ومنتج منفّذ لأهم الأعمال الموسيقية اللبنانية منذ 1990 حتى اليوم، منهاعلى سبيل المثال: خمس سيمفونيات لوليد غلمية، وللرحابنة "اخر أيام سقراط "، و"المتنبي"، و"زنوبيا"، ولمارسيل خليفة"تهاليل الشرق"، والعديد من الأعمال لهبة القواس، وماجدة الرومي، وكارول سماحة، وتانيا قسيس، وكاظم الساهر،وأعمال مشتركة مع فاديا طنب، وإنتاج العديد من الأعمال الموسيقية، وتأسيس أوركسترا سيمفونية في دبي، وافلامتوثيقية عن لبنان، وباليهات في طور الاعداد، وسواها الكثير.
كما وضع بالشيون كتاباً بعنوان "بيان الموسيقى اللبنانية" لمناسبة الذكرى المئوية لإنشاء دولة لبنان.
518 مشاهدة
18 أبريل, 2024
647 مشاهدة
11 مارس, 2024
535 مشاهدة
10 مارس, 2024