RedPeace

جورج الشيخ: وضع أسساً لآلة "البزق” صناعة وعزفا

 تجمع آلتا العود والبزق الموسيقيتين ال"قصعة" وال"زند"، لكن الاختلاف بين الآلتين كبير على مستويات متعددة، وأخصها بالانتماء، ببعد اجتماعي: أفقي- طبقي.

"القصعة" هي العلبة المجوفة على شكل نصف إجاصة، وهي كبيرة في العود، وأصغر بكثير في البزق، والزند، وهو الامتدادالخشبي عند طرف "القصعة"، تجري عليه عملية نقر الأوتار، وهو قصير في العود، وأكثر طولا بكثير في البزق.

مقارنة

والعود هو الأكثر انتشارا وشهرة على مستوى عالمي، ينتمي للمدينة، وقد رافق كبار الفنانين، والعازفين منذ القدم، فشهدإقبال طلب، وتاليا إقبال تصنيع، وابتكار مهارات ترافق التصنيع، تزيد أحيانا من جماله، ومن ناحية ثانية، تحسن أداءه الصوتي،فتأسست له مقاييس، وشروط تصنيع راجت، وبات بإمكان كثير من المصنعين ممارستها، معتمدين قواعد ثابتة له.

البزق حالة ريفية، اشتهر البدو الرحل به. وكان البدوي يُشاهَد متنقلا في الأرياف على دابته، وبيده البزق، يعزف عليه ركوبا،إلى أن يحظى بمحب للآلة، يطلب منه معزوفة بمقابل عطاء معين غير محدود.

تطوره

أتاح تطور وسائل الاعلام، كالإذاعة اللبنانية، لعازفي البزق الظهور، وتقديم الآلة للجمهور ، بتقنيات متطورة نسبيا عنالسابق، فبرز أشهر العازفين مطر محمد، وهو من أصول بدوية، ويمكن القول أنه بتزاوج مهارات مطر محمد عزفا وتلاعبابالبزق، مع التطور التقني للبث الإذاعي اتخذ البزق مكانة اجتماعية "أرقى" من السابق، واقترب قليلا من مكانة العود، دونإحداث خرق نوعي في مجاله.

شهدت العقود القليلة الماضية نوعا من إقبال أفضل على "البزق" وذلك مع انتشار تعليم الموسيقى، ومراكزها، وبروز فرقٍموسيقية بحث مبتكروها على فرادة، فطعموا فرقهم ب"البزق" علاوة على العود، والقانون، والكمان، وسواها.

الشيخ

وفي هذا السياق، قيض ل"البزق" هاوٍ موسيقي، هو جورج الشيخ، درس الهندسة المدنية، وجذبه إلمامه ب"البزق"المعشش في خيم بدوية قريبة منه، طالما تسربت إلى مسامعه منها عزوفات رقيقة على وتريات معدنية، فمال إليها، ومعالوقت شكلت إدمانا باطنيا له، وتعاطف معها بعصبية الانتماء الريفي، حتى إذا قيض له ممارستها، عشقها، ونحا صوبهاموِظِفاً اختصاصه الهندسي في عشقه، تصنيعا وعزفاً.

بدأ الشيخ الاهتمام بالموسيقى منذ ٢٠٠٧، ودراستها في ٢٠١٠، بينما سبق أن تخرج مهندسا مدنيا من الجامعة اللبنانية،وشرح ل"ردبيس" إن "اهتمامي بالموسيقى يتأتى من العائلة التي تهتم بالسماع للطربيات، والوطنيات، وطالماسمعت الوالد يؤدي بعضها غناءً أو رندحةً".

ويوم قيض له مركز لتعليم الموسيقى، كان من أوائل المنتمين له، فبدأ فيه التعلم على الناي، والتحق ب"فرقة التراثالموسيقي العربي" بقيادة العازف الدكتور هياف ياسين، ويقول: "بين متابعة الجامعة والظروف التي عشناها، تابعتالموسيقى مع الفرقة بصورة متقطعة حتى سنة ٢٠١٩، وشاركت بآخر ألبوم للفرقة باسم "لمعة بياتي".

وبين ولهه الموسيقي، والتفكر الهندسي، اختمرت في ذهن الشيخ فكرة تصنيع آلات موسيقى، "فأثناء دراستي لهياكلالمباني، كنت أتساءل كيف يمكن أن نسقط هذه العلوم والمفاهيم على الآلة الموسيقية لتتمتع بالمتانة، والمرونة، ونتعاملمعها كحالة بنيانية، بحيث يمكن أن تصدر الصوب المناسب، كما يتساءل.

بدأ الشيخ التقرب من أحد أعرق مصنعي العود البيروتيين وهو ألبير منصور، وأول محاولة له كانت سنة ٢٠١٧، ف"تعلمتعنده لفترة، ثم مرض، وتوقفت دراستي على العود.

بدأ الشيخ بتصنيع الأعواد، وتابع الموسيقى مع جمعيات متخصصة، وحاول المشاركة بمدرسة لتعليم الآلات الموسيقية،حيث كان قد شرع بتجارة الآلات الموسيقية، وخلال مسعاه عمن يصنع آلة "البزق"، قرر أن يتدرب على صناعته، ويفيد بهذاالصدد: "لما تعمقت بالموضوع، رأيت أن أي تفصيل صغير تحتاجه لصناعة العود متوافر بكثرة، وكل ما يتعلق بالعود مدروسباستفاضة، بينما لم يحظ البزق إلا باهتمام قليل.

ويتابع مع بعض فكاهة: "لأن البزق تعتبر آلة ريفية، وأنا ريفي الجذور، أخذتني العصبية المناطقية نحو البزق لأعطي القطعةالمنتمية لنا، والتي هي من تراثنا، بعض اهتمام، وكعزف وكصناعة تعلمتها بنفسي".

وجد الشيخ في صناعة "البزق" مجالا شبه خام، ولمس أن صناعة "البزق" تعمل بخلفية صناعة العود، مع فارق كبير بتوافرالمعلومات عن القطعتين، و"نظرا لشح المعلومات عن البزق، فتح ذلك علي باب الاختبار، وبات عندي العديد من الأمورالمتعلقة بالبزق، إن من ناحية تركيبته الداخلية، وطريقة إخراج الصوت، وحجم غرفة الصوت، ام مظهره الخارجي.

اكتشافات في "البزق"

في بحثه واختباراته، اكتشف امورا غير مسبوقة في "البزق"، منها، كما أفاد، أنه لم يعثر على قطعة أكثر من خمسين سنةعمرا، وفي مسألة القياسات، درس خمس قطع لنفس الصانع، فوجدها مختلفة المقاسات، خلافا للعود الموحَّد المقاسات.

ويشرح من ناحية ثانية، عمر "البزق" القصير، ف"الآلة التي تناهز الخمسين سنة، يصعب العزف عليها، بسبب انحناء فيالزند الطويل الذي يناهز الخمسين سنتمترا، وهذا لا نجده في العود لأن زنده قصير.

ابتكر الشيخ أسلوبه الخاص في صناعة "البزق"، ويتمادى في تجاربه عليه سبّاقا لأية محاولات غير ظاهرة: "ما أعمل عليهيتكون من جزءين: الأول، أعمل بأن لا تكون القياسات موحدة، مما يفتح مجال التجارب على آلة لم تجد الاعتناء الكافي بها،والمهم في الأمر أن تبقى روحية "البزق" موحدة في تصنيعه؛ الثاني، يتعلق بعمر الآلة، وما أحاوله هو البحث في نوعيةالخشب الذي يمكن أن أستعمله بطريقة تعطي عمرا أطول للآلة، ولم يستعمل سابقا".

ويوضح: "جربت السنديان للزند، بينما كان السابقون يستعملون خشب "الزين"، والجوز البلدي، مع العلم أن الجوز البلدي،رغم لونه الأسود، لم يكن يعالج سابقا بالتجفيف الكافي، وبطرق تستخدم في تمتينه؛ كما أن "الزين" خشبة طرية، مايجعل العمل بها سهلا، وجميلا، لكنها ليست قاسية كفاية لكي تحافظ على استقامتها لعمر طويل، وعلى مسافة طويلةكزند البزق.

وفي بحثه عن بدائل، يجري الشيخ تجارب على السنديان، والاوروكو الأفريقي، وما يتوافر من خشب صلب، ويعلق علىذلك: "هنا يدخل التوازن المتسبب بثقل الخشبة عاملا يجب معالجته، فالأوروكو خشبة قاسية ولكنها ثقيلة، وما تعلمته فيالهندسة المدنية، قد تنطبق هنا، فالصلابة الزائدة ليست مرغوبة دائما؛ المبنى الشديد الصلابة، سريع العطب عند حدوثهزة أرضية خفيفة.

وبذلك يخلص إلى أن "البنيان يفترض بعض مرونة، فيستطيع التفاعل مع تحركات المحيط، وهذا ما لمسته مع السنديانالصلب المتمتع ببعض ليونة، إضافة إلى أنه يمكن إعادة استقامتها إذا انحنت، خلافا للخشب الأقسى، فنؤمن بذلك عمراأطول للآلة".

ومن تجاربه ما أوصله لابتكار "قصعة" البزق بمواصفات خاصة، ويفيد أنه "حتى الآن صنعت منها قطعتين فقط، ولم أشأ أنأبيعها بسبب سعادتي بالوصول لابتكارها، وأعطيت واحدة فقط لصديق حميم، والقطعة الثانية لم أعرضها لإدراكي انهاستنفذ بسرعة، وسعر هذه القطعة هو ضعف القطع العادية.

جهود الشيخ أثمرت أسلوبا خاصا، ومتنوعا في صناعة البزق، وهويته الفنية صارت معروفة لمحبي آلة البزق التراثية الرقيقة النغم.

الكلمات الدالة

معرض الصور