RedPeace

الموسيقار هياف ياسين ملتزم بالتراث الموسيقي العربي المتجدد

حقّق الموسيقيّ الدّكتور هيَّاف ياسين عدّة إنجازات في عالم الموسيقى في فترة زمنيّة قصيرة، وهولم يزل في مقتبل العمر، ولكن أبرز إنجازاته تتمثّل في اختراعه لنموذج من آلة السّنطور، أطلق عليهتسمية "السّنطور المشرقيّ اللّبنانيّ"، المختلف عن بقية السّناطير الفارسيّة والعراقيّة والتّركيّةوالأذربيجانيّة وسواها.

وتُسجّل لياسين عدّة بادرات موسيقيّة تشكّل إضافة فعليّة في نطاق الموسيقى، منها الجديد، ومنهاالرّائج مع تجدّد، وعلى سبيل المثال تأسيسه وقيادته لـ"فرقة التّراث الموسيقي العربي"، ووضعهلعدّة ألبومات ومؤلّفات موسيقيّة تربويّة، واختراعه لنموذجٍ تربويٍّ طفوليٍّ مصغّرٍ من السّناطير مسجّلٍباسمه في الدّولة اللّبنانيّة يعرف بِـ "السّنطور التّربويّ" لخدمة الأطفال والنّاشئة في العمليّة التّربويّةالموسيقيّة المدرسيّة، وتأسيسه لـ "بيت الموسيقى" في جمعيّة النّجدة الشّعبيّة اللّبنانيّة في عكّارأقاصي الشّمال اللّبناني الّذي علّم الموسيقى على مختلف الآلات لما لا يقلّ عن ألف هاوٍ منذتأسيسها لثماني سنوات خلت.

وعلى الصعيد الأكاديميّ، وبعد سنتين من الدّراسة الهندسيّة، اتجه أخيرًا إلى الموسيقى، وانتسبإلى الجامعة اللّبنانية- كلية التّربية لدراسة التّربية الموسيقيّة سنة ٢٠٠٠، أعقبها بماسترز في علمالموسيقى والّذي على أساسه وضع أسسه لولادة السّنطور المشرقيّ اللّبنانيّ في الجامعةالأنطونية ٢٠٠٦، ثم نال الدّكتوراه في الموسيقى وعلم الموسيقى من جامعة الكسليك سنة ٢٠١٢،حيث خرج بعدها واضعًا منهاجًا لتعليم الموسيقى في المدارس اللّبنانيّة قدّمه لوزارة التربية اللبنانية،بالتعاون مع إحدى زميلاته.

السّنطور وتطوّراته

ياسين، مواليد ١٩٨١، ولكلّ من إنجازاته رواية. غالبا ما يفضّل فيها التّركيز على إنجازه لآلة السّنطور. "كانت أشبه بالمصادفة"، يقول في حديث عن قصّته الطّويلة مع السّنطور، مضيفًا أنّه بعد سنتين منالدّراسة الجامعيّة وخبرة سنين في العزف على آلة "البيانو" حتى ٢٠٠٢، حضر أمسية موسيقيّةحواريّة ارتجالًا بين أستاذه نداء أبو مراد على الكمنجة، وفرقة إيرانيّة بقيادة غلام رضى مشايخي علىالسّنطور، وشدّه الحنين إلى جذور والدته، فهو لبنانيّ من أم إيرانيّة، وفي إيران أبصر النور، وفيالأمسية لفته السّنطور، ولم يتوقّف عنده. وبنهاية الأمسية، أهدى مشايخي سنطوره لأبو مراد.

ويتابع ياسين أنه خلال دراسته على يد أبو مراد، فكّر بأن يقوم "بمصالحة" شخصيّة مع الموسيقىالعربيّة الّتي كان بعيدًا عنها، إلى أن حان الوقت لاختيار آلة يتابع عليها دراسته الجامعيّة، وفي نقاشهمع أبو مراد، سأله عن إمكانية عزف الموسيقى العربيّة على السنطور، فبادره بالإيجاب بسرعة، وقدمله السّنطور الّذي أهداه إيّاه مشايخي في الحفلة المشتركة بينهما. "أخذت السنطور" كما قالياسين، "على شرط أن أرده فقط إذا لم أكن أريد أن أعزف عليه".

ويضيف: "حملت السّنطور، وبليلةٍ واحدةٍ، دَوْزَنْته وعزفت عليه السّماعي الثّقيل البيّاتي من عصرالنهضة، تلحين إبراهيم المصري الّذي توفي ١٩١٢، وفي اليوم التّالي، حملت السّنطور إلى الجامعة،فظنّ أبو مراد أنني سأعيده له، فقلت له: لا سأعزف لك. استغرب. وأبقاني حتى آخر السّاعة، وعزفتله "السماعي الثقيل البياتي"، وهو مقطعوعة كاملة دسمة فيها عدّة مقامات، وكنت قد درسته للتّوفي الصّف، ولما عزفت كانت ردة فعله مذهلة. أعجب بالعزف، ودعاني إلى مشاركته في حفلة بعدعشرة أيام في الجامعة اليسوعية.

ويتابع معلّقا أنّه: "في تلك اللّحظات، شعرت أنّه لم تعد تربطني أي صلة بآلة البيانو".

ويشرح ياسين أنّ السّنطور قد دخل إلى أوروبا في القرون الوسطى، وعرف تحت مسميّات كثيرة،أشهرها "السيمبالوم"، من عائلة قيثارة الطّاولة، أي عبارة عن طاولة على شكل شبه منحرفمشدود عليها أوتار عدّة بطريقة "مطلقة". ثمّ تطوّرت هذه الآلة "ميكانيكيًّا"، فأضيفت لها لوحة مفاتيح،فظهرت آلة "الكلافي سيمبالوم"، ليظهر بعدها البيانو. وبالتّالي، وبالاستناد إلى الأورغنولوجيا (علمالآلات)، ومن منحى تاريخيّ، يمكن اعتبار أنّ "البيانو هو حفيد السنطور".

ويذكر أنه "قام بسلسلة أبحاث على الأوتار، بالتّعاون مع الجامعة الأميركية في بيروت، ومع حفّارٍمصريّ في طرابلس لتطبيق التّجربة، ونتج عنها أوّل سنطور مشرقيّ لبنانيّ، (أو عربيّ غير العراقيّ)،متشابه بقوّة مع كلّ من العراقيّ والإيرانيّ، ولكن مختلف أيضًا بطريقة كبيرة معهما". كما قال، متابعًا: "رحت في اتّجاه جديد ومشوّق، ثمّ أطلقنا فرقة التّراث، وقّدمنا عدّة حفلات على السّنطور الإيرانيّالمطوّع بداية، ثمّ شعرت بضرورة لحاجات مختلفة عن هذا السّنطور، ومتغيّرات موسيقيّة خاصّة، وبدأتبدراسة أكاديميّة صحيحة، وقامت شهادتي الماسترز على السّنطور، وكيفية قيام مقاربة ومقارنة بينالسّنطورين، العراقيّ والفارسيّ، وصولا إلى نتيجة أن الموسيقى المقاميّة العربيّة المشرقيّةالمختصّة في كلّ من بلاد الشّام ومصر، تحتاج إلى هذا السّنطور الجديد بحجمه المحدّد، وبسماكةخشب محدّدة، وبعدد أوتار محدّد، وعدد مواضع محددّة، وبقوّة شدّ للأوتار خاصّة، والأهمّ صياغة جملمحدّدة تشبه إلى حدّ كبير عزف آلة القانون".

ويتابع: "من الأفكار التي راودتني تقليد قانون محمّد العقاد الكبير، عازف القانون المرجعيّ في النّهضةالعربيّة، مع التّأكيد على أنّ كلّ الرّصيد الّذي كنت قد درسته عن الموسيقى كان يجب أن يُسقطويُطبّق على هذا السّنطور، وإذا حدث أي خلل أو أي عدم قدرة على تطبيق هذا رصيد، فهذا يعني أنالسّنطور لم يستوفِ بعد كلّ تلك الشروط".

عن الفروقات بين السنطورين العراقي والفارسي، والسنطور الجديد، شرح أن "العراقي يتألف من ١٢دامة، على اليسار، و١١ أو ١٢ على اليمين، ويتألف السنطور الإيراني من ٩ دامات. أما السنطور الذياحتجت له فيتألف من ١٥ دامة، ولكن على ثلاثة صفوف ١٥×١٥×١٥. وبذلك اصبح بمتناولنا عدة مواضعإضافية".

ولحظ أن دامات العراقيّ متحرّكة، لتمكّن التّغيير فيه من مقامٍ إلى مقامٍ آخر، في حين أنّ السّنطورالجديد ثابت الدّامات مع تأمين لكلّ "العُرَب" الموسيقيّة المطلوبة في عمليّة "التّلوين" المقاميّة. ولدىالسّنطور الإيرانيّ نوعان من الأوتار، صفراء نحاسيّة في صفّ الدامات اليمنى، تعطينا أصواتًا ثقيلةمنخفضة، وأخرى بيضاء فولاذيّة من صفّ الدّامات الأيمن متخصّصة بالأصوات الحادّة العليا".

ويقول: "حافظت على هذه الاستراتيجيّة في مواضع السّنطور الجديد، مع تغيير الأوتار من نحاس أصفرإلى أحمر لزيادة الثّقل الصّوتيّ، مع الإشارة إلى أنّ السّنطور الإيرانيّ تتمّ دَوْزَنُتُه بستّ طرق مختلفةبحسب الداستكاه و\او الأوازه المطلوب، إذ يمكن اعتبار هذا النّظام الموسيقيّ (نظام الدّاستكاهوالأوازه) قريبا جدًّا من مفهوم المقام العربيّ، ولكن لا يمكن بتاتًا تطبيق نفس الطّريقة على مفهوم أيّآلة عربيّة بما في ذلك السّنطور المشرقيّ الجديد، إذ يجب أن تكون هناك جهوزيّة تامّة واستعدادللدّخول في كلّ المقامات دفعة واحدة بسبب كثافة التّلوين المقاميّ الطّارئ في الأداء الموسيقيّ".

ويخلص إلى أنّ "أهمّ ما يميّز السّنطور المشرقيّ الجديد هو قدرته على صياغة تلك الجملالموسيقيّة العربيّة، مع صوتٍ رنينيّ خاصّ به يميّزه عن كلا السّنطور العراقيّ من جهة والإيرانيّ منجهة ثانية، وذلك بسبب المتغيّر الّذي طرأ على شكله وعلى أوتاره من حيث العدد والنّوع وقوّة الشّدّ".

البدايات

بعد أن أبصر ياسين النّور في طهران، جاء إلى لبنان بعمر السّنتين والنّصف، وكان إلهامه الموسيقيّفي المنزل، متغذيًا من تجربة والده المطرب والعازف على الآلات الشّرقيّة.

يتحدث ياسين عن تلك المرحلة، قائلا: "في الثالثة من عمري، وأول دخولي إلى المدرسة، كانتحفلات المدارس تعتمد علّي في مختلف العروض وأكثرها، وكنت أهوى الفنون، عزفت على الآلاتالإيقاعيّة وأنا في الثالثة والنصف من عمري، ورافقت والدي في عزفه وغنائه في المنزل. وبقيت فيإطار الهواية والرّغبة الشّبابيّة، وتعلّمت على الكثير من الآلات، وأنا في الثامنة، البيانو والأورغ، وأنشأتفرقة وأنا في عمر ١٢ سنة لإحياء المناسبات الشّعبية من حفلات وأعراس، فتسلينا وأنتجنا مصاريفناأنا وزملائي، وعند الوصول إلى باب الجامعة، جرى الضغط المعهود من الأهل باتجاه دراسة "ما يفيدالمستقبل" وتأمين العيش، فتوجهت إلى الهندسة، مع متابعة بالكونسرفاتوار اللّبناني، لكننّي لمأحب الهندسة، خصوصًا أنّني اكتشفت أنها ستستهلك كل وقتي المستقبليّ، بينما شغفي كان فيمكان آخر".

إصدارت

وفي عودة إلى إنجازاته، يتناول الجانب الموسيقيّ البحت، ويقول: "لديّ إصداران، الأوّل اسمه "غزل"،صدر سنة ٢٠٠٨، من إنتاج الفرقة، ورعاية مؤسسة فارس، واحتضان نادي الإرشاد والتضامن-بينو،وشرف لي أن تكون انطلاقتي من قريتي بينو. والألبوم الثاني هو "عشق" سنة ٢٠١١، ومن إنتاج"بيت الموسيقى" في النّجدة الشّعبيّة اللّبنانيّة، واليوم نحن بصدد إنهاء تسجيل لإصدارٍ ثالث فيغضون شهريَن سيكون في متناول الجمهور.

ثم ينتقل إلى الجانب الموسيقيّ التّربوي متحدّثا عن ثلاثة إصدارات للأطفال، ويعرضها، أوّلا، "بدنانغنيّ"، وهو عبارة عن كتاب وقرص مدمّج معه، يحتوي على ٢٥ أغنية وعدّيَة أطفال، منظومة نصًّا،وملحّنة، من تأليفي وتلحيني، باللّغة العاميّة اللّبنانيّة، منبثقة ومنتميّة إلى رحم التراث الموسيقيّالشّعبيّ اللّبنانيّ- الشّاميّ، ومؤداة بحسب القواعد الموسيقيّة التّقليديّة الرّصينة خصوصا لجهةاستخدام آلات من التّقاليد الموسيقيّة الشّعبيّة مثل البزق والمجوز والنّاي والطبل والدّربكة، والقانونوالعود بالإضافة إلى السّنطور، ولطابع الأداء الموسيقيّ التّأويليّ الارتجاليّ، مع غناء لجوقة أطفال منعمر ثلاث إلى عشر سنوات، وهذا من إنتاج الجامعة الأنطونية سنة ٢٠١٣.

ويضيف: "ثم تابعنا الانتاج التّربويّ الموسيقيّ عام ٢٠١٤ فأصدرنا أخوات "بدنا نغنيّ" وهي كتاب "أناوالميجانا"، وهو عبارة عن ١٥ لحنًا من التّراث الشّعبيّ اللّبنانيّ-الشّاميّ، وتمّ تطويع هذه الألحان منحيث السّرعة وطبيعة الأداء، وتلحين نصوص تربوية خضعت لكل المعايير التّربويّة والعلميّة والأكاديميّةالمطلوبة. والأخ الثالث هو كتاب "يلّله نسمع"، وهو شرح لتسع آلات من الموسيقى المشرقيّة معصور لها للأطفال، وشرح علميّ لكل آلة، وهناك ٢٩ مقطوعة عزفية ترافق الإصدار من التّقليدالموسيقيّ المشرقيّ العربيّ، والتّراث الموسيقيّ الشّعبيّ اللّبنانيّ، هدفها تقديم فكرة سمعيّةكاملة للطالب عن هذه الآلات".

بحوث

عن البحوث الموسيقية الأكاديمية، تحدث ياسين عن وضعه لمنهج في التّربية الموسيقيّة المشرقية،موجّهة إلى الحلقة الأولى من النّظام التّربويّ اللّبنانيّ، في كتاب وقرص مدمّج أصدره مع زميلتهالدّكتورة بشرى بشعلاني. ويذكر أن "البحث أتاح انخراط الكتب الثلاثة في تلك المنهجيّة، حيث يقدّمفيه صورة كاملة عن كيفيّة تعليم الموسيقى اللبنانيّة، والمشرقيّة بمعناها العام، بكلّ آلياتهاومنهجيّاتها العلميّة التّربوّية الصّحيحة، وكيف يمكن للأستاذ أن يستخدم هذا المنهج بطريقة سهلة،ومفيدة واعتماد أنشطة وألعاب تخدم هذا الاتجاه، وفي الكتاب محاور أخرى..."

الفرقة

وعرض إنشاء فرقته الّتي تأسّست عام ٢٠٠٣، تحت اسم "فرقة التّراث الموسيقيّ العربيّ"، و"كنّاحينها طلبة في الجامعة اللّبنانيّة، وأَوْلَينا اهتمامًا بموسيقى النّهضة العربيّة للفترة الممتدة بين مطلعومنتصف القرن العشرين، وهي حقبة مختصّة ومغمورة"، كما قال متابعا: "قرّرت حينها وقد كنت طالبّافي البيانو، الالتفات إلى موسيقى النّهضة، وتعرّفت على السّنطور، وبدأت بإنشاء الفرقة بطريقةعفويّة من شباب وشابات في الجامعة، واتبعنا النّهج التّقليدي خصوصا لجهة المحافظة على شكلالتّخت الموسيقيّ المشرقيّ وهو المعروف باعتماد آلات قليلة، ٢-٣ آلات مع آلة الإيقاع الأساسيّة(الرّق). والتزامنا أداء "الوصلة" وهو الشّكل الموسيقيّ العلنيّ والأكبر الّذي التزمت به موسيقىالنّهضة في الأداء".

وبعد إنشاء الفرقة، رويدًا فرويدًا أصبحت الفرقة محترفة، ويقول: "التزمت الفرقة بهذا الإطار الموسيقيّ،وشاركت بمهرجانات دوليّة وعربيّة، ونالت تنويهات وتهنئة وجوائز كثيرة".

ويختم: "لقد قرّرت الالتزام بهذا التّراث المتجدّد، والأصيل البعيد عن الرّتابة، وعن الصّنميّة، وعنالحرفيّة، ونحن نجدّد في الرّوح الّتي تحيي، ونبتعد عن الحرف الّذي يقتل، ونحافظ على القواعدالرّصينة، ونجدد من الداخل، وتأتي إضافة السّنطور إلى التّخت المشرقيّ كحركة تجدديّة بحتة تتابعالمسيرة الّتي التزمناها في مسيرتنا".

الكلمات الدالة

معرض الصور