يصنع بول أبو غريب الكمنجات، ويعزفها. هواية تجاوزت الصناعة، وهدف الربح، إلى حال من الوله والتولع.ومنذ صغره، حلم بول بأنه يجمع الكمنجات، لتصبح الكمنجة حبيبة أو عشيقة ينذر لها عمره، ويقضيأوقاته الطويلة في صناعتها، بمتعة فائقة تعتمد حفر قطعها واحدة تلو الأخرى، ويثابر بعدها على العزفعليها.
درس بول الموسيقى مبكرا، وبين متعة الحلم الطفولي، ودراسة الموسيقى، مزج الهوايتين، فأصبحصانعا لعشيقته بتفنن وتأن مترف، وعازفا على أوتار قلبها بامتياز.
عدة بول شفرة، يعرفها النجارون ب"المقشطة"، لا تتجاوز السبعة سنتمترات طولا، وسنتمترا ونصفالسنتمتر عرضا، سماكتها مليمترا واحدا. أحد حدودها مشحوذ كشفرة حادة، ومنه تولد كل أجزاءالكمنجة.
عمل بول في عدد من الوظائف، ودرس في أكثر من تخصص. لعله جنون الحب الذي دفعه لتلقيالمعارف من كل النواحي لتحقيق حلمه بالوصول إلى حبيبة تقبل به دون تردد، أو خوف من الهجران. كانجنديا في الجيش، فساعده عمله على التوسع في المعارف. درس المعلوماتية التكنولوجية، وكذلكالكيمياء. والتحق بالمعهد العالي للموسيقى (الكونسرفاتوار) فخبر فيه الموسيقى. وتدرب منذ صغرهعلى النجارة على يد والده، حتى إذا تجمعت كل العناصر، راح يصنع الكمنجة، ولأنها حبيبته، فكان منالمفترض أن يتقنها، ويخلقها بأتم ما يمكن من جمال ودقة، وبأفضل ما يمكن من مواد خشبية، أو طلاء.
اتخذ بول من منزله في الفياضية، خمسة كيلومترات شرقي بيروت، خدرا للقاء الدائم مع هواه. يرتفعبيته عن مستوى المدينة، ويبعد عن الطرقات السريعة، في منطقة هادئة، لجأ إليها من الصخب، وضجيجالحروب التي أرهقته. رمى خلفه الدنيا، وانعزل في منزله يتابع تطورات الكمنجة، وكل جديد يتعلق بها.غطى شرفة المنزل بغطاء بلاستيك، فأصبحت مشغله على مساحة ثلاث أمتار مربعة. منها استولدورمم مئات الكمنجات، منها الجديد الذي صنعه بيده، ومنها القديم المتضرر.
يعرض بول أبو غريب مواليد ١٩٦٢ روايته مع الكمنجة: "منذ أن كان عمري سبع سنوات، تراءى لي حلمبأنني ألتقط الكمنجات ببيوتها، وهي بطراز قديم جدا، ولم أكن أعرف الكمنجة، ولا اسمها. كنت أحلمأنني دخلت إلى أديرة مدمرة وسطحها قرميد، وأقوم بتجميع الكمنجات. وكنت أشعر بسعادة فائقة. لاأذكر أنني شاهدت الكمنجة، ولا أعرف تفسيرا للحلم، وإن كان أمرا روحانيا. أنا أعرف الكمنجة قبل أنيكون شكلها كما هي”.
ويتابع: "رأيت هذه الرؤيا عدة مرات لكنها لم تتحقق. وفي عمر ١٤ سنة، كنت أحلم أن اصنع واحدة. كانتأيام حرب، والخشب المطلوب ليس متوافرا. فخشب الكمنجة يجب أن يعيش في بلاد الصقيع، والجبالالعالية، وهذا غير متوافر في لبنان”.
يروي بول أنه بدأ يتعلم الموسيقى في عمر ٧-٨ سنوات، عندما كان يدرس في مدرسة "فرير" مار منصورالتي كانت قائمة على ساحة البرج (الشهداء) في بيروت. ويقول: "التقيت بصديق أهداه شقيقه كمنجة،وكان لي شقيق خطف في الحرب الأهلية ١٩٧٥ يشجعني على الموسيقى لأنه كان يلمس أن صوتيجميل. أحببت اقتناء كمنجة، ولم يكن لدي المال. صرت أبيع الجرائد، وعلب الدخان، وأجول لبيعها علىالبيوت لأجمع المال اللازم لشراء كمنجة. جمعت ٤٥ ليرة، وكان لها قيمتها يومذاك، ونزلت إلى ساحةالبرج حيث يوجد محل لبيع القطع الموسيقية صاحبه أنطوان بوجي. اشتريت كمنجة من دون بيت، وبدأتأتمرن على الموسيقى مع زميل لي".
يصدف أن تعرف والد بول على انسان يعزف الموسيقى، فتطورت دراسته الموسيقية معه، ومع الوقتدعي لإحياء حفلات، ثم التحق بالكونسرفاتوار "لأثبت الأشياء التي تعلمتها"، كما قال، وذلك سنة١٩٨٤، في عمر ٢٢ سنة، ودرس لخمس سنوات، وكان يخدم في الجيش اللبناني في تلك الفترة.
اتبع بول التوجه الشرقي في العزف، ولم يحصل على شهادة في الكونسرفاتوار لأن إدارته أوقفت بشكلفجائي التعليم الشرقي، بينما كان يحتاج لسنة إضافية للحصول على الشهادة، مما دفعه للتحول إلىالموسيقى الغربية.
بعد سنة ال٢٠٠٠، انشئت فرقة الأوركسترا الشرقية في الكونسرفاتوار وهي حاليا من ٥٥ عازفا،والتحق بول بها، ولا يزال.
تصنيع الكمان
بداية رحلة بول مع الكمان بدأت في الرابعة عشرة. يقول: "جمعت خشبا، وصنعت منها كمانا من دونقياسات، ولكنها تكسرت قبيل الانتهاء بقليل. كانت أول محاولة فاشلة. تركت الجيش ١٩٨٩، وثابرتعلى الموسيقى، وفي ٢٠٠٥، تفجرت الأوضاع في لبنان، إثر اغتيال الرئيس الحريري. لجأت إلىالانترنت، وصرت ابحث فيه عن الكمنجة، وعثرت على عروض أخشاب ومعدات. راسلت شركة، وبعد أياموصلتني مجلة منها، وعثرت فيها على كل ما أريده لتصنيع كمنجة".
يضيف بول أنه بدأ يصنع الكمنجة بعد أن اكتسب خبرة بتصليح الكمنجات لزملاء له، وتعرف على الكمنجةوتفاصيلها، ثم "قرأت الكتب الكثيرة عن صناعتها"، كما قال.
يعلق على صناعتها بقوله: "تاريخ الكمنجة كبير جدا، وهي تختلف عن بقية الآلات لأنها أقرب إلى صوتالانسان، وفيها حركات كثيرة، وفي صناعتها صعوبات ودقة متناهية، ونوعية خاصة من الخشب والطلاءوطريقة الصناعة، والبداية بالخشب، فالقبضة والضهر والجوانب تصنع من خشب شجر ورقة العلمالكندي، وهي شجرة القيقب. وكلما كان مصدرها من الجبال الباردة، كان الخشب أقسى وأجود، لكنوجه الكمنجة يصنع من الشوح الأقل صلابة".
وذكر أن "سماكة الضهر لها عيارات مختلفة، ويكون بحسب الصانع، وإحساسه، وكيف يريد الصوت.صنعت ١٤٠ كمانا، و"أماتي"، الصانع العالمي الشهير، صنع ١٥٠ كمانا، وهناك كثيرون مشهورون”.ويقول: درست عن كبار الصناع، الإيطاليين ستارديفاريوس وغوارنيري، وهما أهم من صنع الكمان فيالعالم، وغوارنيري كان مساعدا لستراديفاريوس، صنع ١١١٢ كمنجة، مع تطعيم. صوت كماناته أقوىوأفتح”.
ويفيد بول أنه "جمع بين معايير الاثنين، فهناك قياسات دقيقة ومحددة، ولها مقاييس عالمية، قاربتالمقياس العالمي لستراديفاريوس، لكن اعتمدت فتحة غوارنيري، والفتحة على وجه الكمان التي يخرجمنها الصوت، وتختلف الفتحات بميليمترات صغيرة. ستراديفاريوس مقاس الجسم عنده من دون الرقبةهو ٣٥٦ ملم، وهناك مجال ٣-٤ ملم للتحرك، والعرض مقياسه متعارف عليه (ستاندرد)، ٣٠ و٣١ ملم،ولتركيب القبضة مهارة خاصة، وزاويتها خاصة، وليس من آلة تستطيع قياس انحناءتها، وتنفذ تقديريا،ومن هنا ليس هناك كمانا مثل الآخر. والقبضة تعطي قوة الصوت ونوعيته”.
ويتابع: "ثم تأتي رقة الخشب، فالوجه له عياراته، وكل سنتمتر على الضهر له قياس معين مختلف، مثلاكل خمسة سنتمترات عن الطرف تزيد سماكة الخشبة عشر الملم، حتى الوصول إلى 3 أو 3,5 ملم،وفي داخلها دوائر، ويفترض أن تكون الكمان خفيفة وبذلك تكون أفضل. ورقَة الخشبة تلعب دورا مهما فيجمال الصوت، ويجب أن يكون هناك ارقاما محددة للتعيير لكي يتطابق ارتجاج الوجه على الضهر. فالضهرمن القيقب القاسي، والوجه خشب شوح خفيف يتفاعلان أنغاما وفق هذه العيارات، وهناك العمود فيالوسط، الذي ينقل الصوت من فوق إلى تحت، وفي نفس الوقت يثبت السطح الذي ينقل الارتجاج،ولكنه يحدد نوعية الصوت. ويأتي جسر ملتصق بالوجه يحدد نوعية الصوت العريض (الباص)”.
يذكر بول أن "الخشب غالي الثمن. فبين عدة شجرات قيقب هناك نوع واحد يميزه الحطابون اسمه "تونوود" (Tone Wood)، وهو للصوت، ويتميز من عروقه، فنوع الخشب، ونوع الصناعة هي الأساس فيالشكل، والشكل والصوت نصف القيمة، ثم يأتي الطلاء، والوتر، والكمان مزيج من كل هذه الأشياء”.
الطلاء (الفرنيش)
الطلاء عالم آخر بحسب بول، مضيفا: "يتعلم الانسان صناعة الكمان ولو لعشر سنوات، لكنه يبقى طوالحياته يبحث عن الطلاء لأنه علم وتجربة. وأهم سر في الكمنجة موجود في الطلاء، وكل شخص يصنعهبطريقته الخاصة”.
عن طريقته قال: "تعرفت على الطلاء من خلال دراستي الجامعية للكيمياء، وعمليات التفاعل. أصنعالطلاء ليس من مواد نفطية أو كيميائة، إنما من النبات. وهناك فارق بين كمان وآخر من خلال الطلاء،فالصوت يتميز بحسب نوعيته. والطلاء له معايير ومواد شديدة التنوع، وكل مرة أركب طلاء مختلفا، إلىأن توصلت إلى معادلة معينة أتبعها، ويجب متابعتها، وهي عملية معقدة. عناصر الطلاء ليست الأساسإنما طريقة التعاطي معها. كيف تطبخ، وبأي وقت تطليها، وكيف يتم حفها، والمعالجة لها، وكم تبقيهامخزنة قبل طلائها”.
يؤكد بول أن عمله هواية، ويقول أنه لا يشتري إلا الزيوت، وأن هناك ٤٥ صنف طلاء، لكنها مقسمة إلىثلاثة أنواع رئيسية، منها ما هو بالسبيرتو (الكحول) الذي يعطي قساوة عند الجفاف، وهناك المعتمدعلى الزيوت التي تحتاج لوقت طويل لكي تجف، لكنها تظل مطواعة تعطي حرية حركة للخشب”.
"دور الطلاء حفظ الخشب، وحمايته، والحفاظ على الصوت، والوقاية من الحشرات. وهناك أساس تحتالطلاء من عدة مواد. والطلاء يتم على عدة مراحل"، كما يوضح بول.
عن الوتر، يشرح بول "اعتماد أمعاء الماعز لتصنيعه، يجففونه ويبرمونه، ولا يزال معتمدا في موسيقىالباروك، أما للموسيقى الشرقية، فيفترض أن تكون الأوتار من البولاد المطلي بالفضة، لأن الصوتالشرقي أقوى. وللأوتار مصانع، ولا أحد يصنع الأوتار بمفرده. وهناك ماركات عالمية للوتر”.
عن بقية الأقسام، يتحدث عن القبضة، التي تمتد إلى أواسط السطح ويجب أن تكون من الأبنوس، ولهادور خاص في حماية وجه الكمان، وفي نفس الوقت تريح العازف. والمفاتيح يجب أن تكون من الأبنوسالأصلي، وإذا كانت نوعيتها رديئة، تتحرك، ويتغير الدوزان. والآلة الجيدة تعرف من مفاتيحها".
يختم بول معلقا: "الحديث عن الكمان يستغرق عشرات السنين، وهو بحر واسع، وعلم بلا حدود، والفقروالحرب والبلد الذي تراه دائما متجها نحو المجهول هي من الأسباب التي عملتني صناعة الكمان”.
520 مشاهدة
18 أبريل, 2024
648 مشاهدة
11 مارس, 2024
537 مشاهدة
10 مارس, 2024